أناديكِ من بعيد

أناديكِ من بعيد

يا من رسمتُ صورتها في مخيّلتي:

بلغتُ الثلاثين ولم أتزوّج بعد، وأنا أنتظرك بفارغ الصبر، ولكن ثقل عليّ الانتظار كثيرًا، حتى كادت روحي تعجز عن تحمّله.

ربما تتساءلين: لِمَ لَمْ أتزوّج بعد، مع أنني احتللتُ مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية، وطار صيتي في المنتديات الأدبية والنوادي العلمية، وتجاوز اسمي المحلية إلى العالمية، وكان لإنجازاتي صدىً في الآفاق البعيدة؟ ذلك لأنني اشتهرتُ كاتبًا وقاصًّا، وصدرت لي قصص ومقالات تشتمل على محتويات وأفكار يستفيد منها المثقفون، ويكتب عنها الباحثون والناقدون ما بين تقدير وانتقاد.

نعم، أصبتِ في طرح السؤال عليّ، ولكنّك لن تجدي الجواب المقنع حتى أخبرك به. فاستمعي إلى ما أقول، وعيهِ في قلبك. وأنا متردّد قليلًا، لأن ما سأقوله لك قد يبدو نوعًا من الألغاز والأساطير، ولكن لا بأس، فليكن كما يشاء، فأنا على يقين بأنني سأقنعك عندما تقرئين كل ما سأسطّره لك.

أنا أغتبط الآن بمن صادق منذ البكالوريوس فتاة أعجبته، فلم يتردّد ولم يتأخّر في إظهار الحب لها، وبقي على تواصل مستمر معها. ولا أدري: هل يجوز التواصل مع الفتاة الأجنبية من منظور الشريعة أم لا؟ وهل يجوز أن يبقى حبيبًا لقلبها من دون نكاح؟ هذه وظيفة الفقهاء وأصحاب الفتوى، فلا أتدخّل فيما ليس من مجال تخصّصي.

عندما كنتُ في البكالوريوس صببتُ عنايتي كلّها على تحقيق الحلم الذي حلمتُ به، والبلوغ إلى المراد الذي استهدفتُه. عشتُ في بيئة جامعية، ولكنّ النظر إلى الفتاة كان حرامًا عليّ، فكنتُ أمشي وأنا أغضّ البصر، حتى اشتهرتُ بين الأساتذة والطلبة كطالب شريف وقور كريم. وبالفعل، كسبتُ الاحترام كثيرًا، وأصبحتُ موضع الثقة. وظنّت الفتيات أنني ملك خالٍ من المشاعر، لكن الأمر لم يكن كذلك؛ فالقلب يجيش بمشاعر الحب، ويتوق إلى فتاة تشاركه الفرح والحزن. غير أنني كنت مسيطرًا على مشاعري، ولم أدعها تنفجر في غير موعدها، إذ كنت أعتقد أن لكل شيء أوانًا، فلو ظهر في غير أوانه لبقي ناقصًا، لكنني كنت مخطئًا.

ربما تتساءلين: لماذا كنتُ على خطأ؟

لأنني قضيتُ ربيعًا من عمري في فترة تغيّرت فيها العادات بسرعة لم أستطع التنبه لها، إذ كنتُ مستغرقًا في الدراسة والكتابة والمطالعة بعيدًا عمّا تطلبه التغييرات التي طرأت. بينما اكتشف الآخرون التغييرات، فتزوّج بعضهم وهو في الثالثة والعشرين، وبعضهم أعجب بفتاة فاقترح عليها الزواج. وعندما آن الأوان لكي أتزوّج، وجدتُ نفسي أشبه بأصحاب الكهف الذين استيقظوا بعد نوم استغرق سنوات كثيرة، فتغيّر كل شيء، فساورني شعور بالغربة كشعورهم.

وجدتُني في زمان امتلأت فيه قلوب الفتيات بحبّ من لقينَ في مسيرة حياتهن، فرأيتُني مندهشًا وغريبًا، لأن كل شيء غريب: الشجاعة مفقودة، والجبن سائد، والفتوّة غائبة، والأنوثة حلّ محلها الترجّل، واستُبدلت الذكورة بالأنوثة. الحب تنحّى من القلوب، والهوى تفشّى في كل بقعة، واستُحلّت الدعارة باسم الحب، ودنّس القلوب حبّ مزيّف، وأصبحت كلمة “العفاف” وحشية وغير مانوسة في الكلام.

وصار الأمر أن صديقًا لي اعتزم على العزوبة، لأن عائلته اختارت له فتاة معروفة بالتديّن والمحافظة على الصلاة والصيام والكرامة والشهامة والأنوثة. ولكن عندما حان وقت الاقتران، تلقّى صديقي اتصالًا من رقم مجهول، قال صاحبه: “امنع عائلتك من الاقتران بها، لأنني أحبها وسأتزوجها”. فوقع هذا الأمر عليه كالصاعقة، إذ أتعب نفسه كثيرًا في البحث عن رفيقة الدرب، فخاب أمله، إذ لا مفرّ له من رفض الاقتران بها، لأن الزواج القسري نوع من العبودية، والحبيب أجدر بحبيبة قلبه. فالحب شعور ينبع من القلب ويظهر أثره في التصرّفات، والتفريق بين روحين متحابين ذنب كبير.

فتنازل صديقي عن حبيبته، وقال له: “حسنًا، لن أتزوّجها. دَعْها ترفض الزواج مني أمام عائلتها”. ولكن ظهر الجبن: كيف لحبيبة أن تكون جبانة؟ وهل يمكن أن يجتمع الجبن والحب معًا؟ أعتقد أنّه لا يمكن، كما لا يمكن اجتماع النار والماء، فهما نقيضان. لكننا في زمان التكنولوجيا، حيث أصبح المستحيل ممكنًا، والممكن مستحيلًا.

قال العاشق: “هي لا تستطيع أن ترفض أمام عائلتها، فعليك أن ترفض الزواج منها أمام عائلتك”. فرفض صديقي الزواج منها، وتلقّى العتاب والملامة من عائلته، لكنه تحمّل كل شيء، ولم يخبر أحدًا بالحقيقة، لأنه لم يُرِد أن تكون الفتاة موضع ملامة وعتاب. فضحّى بمشاعره وعزّه ومكانته في العائلة حفاظًا على مكانتها وعزّها.

فهذه قصة صديقي. وهناك أحداث كثيرة واجهها الأصدقاء الذين انحرفوا عن المسار السائد، لأنهم شغلوا أنفسهم بتحقيق أحلامهم. وعندما اقتربوا من الثلاثين وجدوا أن الفرص ضاعت، ولم يبقَ مكان شاغر في قلوب الأكفاء من الفتيات، فتفشّى القلق والتوتر بين الشباب المثقفين، وعمّ السهر في الليل.

لكنني لست يائسًا، ولم أقنط قط، لأنني على يقين بأنني سأجد فتاة مثقفة تنتظرني بفارغ الصبر كما انتظرتها، وتحلّت بحلي الثقافة كمثلي، وقضت عمرها في المطالعة والدراسة كما فعلت. فهي تنتظرني، وليس الأمر ببعيد. لذا رسمتُ صورتك في مخيّلتي، وصوّرتُك في كلمات الإهداء لكتبي، ووصفتُك “دُرّة يتيمة ما زلتُ، ولاأزال، أبحث عنها ولم أعثر عليها، وهي دُرّة الوفاء والتفاني في سبيل الإنسانية والمحبّة”.

تخيّلتُك دائمًا معي، ولا أدري هويّتك، فوصفتُك في كلمة الإهداء: “من أنقذ بعد عطش قاتل، وسقى خمر الحب، فأصاب القلب بسُكرة لم يفق ولن يفيق منها أبدًا”. ووصفتُك “بالروح الطاهرة العذبة التي تبقى قريبة من الروح مهما طالت المسافات، وتضيء دروب المودّة مهما أظلم الليل، وتعيد أمل اللقاء مهما خفت صوته، وتشعل لهيب الشوق والحنين في القلب مهما خمدت نارهما”. ووصفتُك “بالروح البريئة التي لا تعرف حدود الزمان والمكان”.

فاظهري حيثما أنتِ، وأكمليني لأنني ناقص،  ولا تختبري صبري أكثر مما فعلتِ. فأنا لست روبوتًا خاليًا من الأحاسيس والمشاعر، بل إنسان من لحم ودم، وبين جنبي قلب يخفق، ولي عين تشتاق إلى رؤية زوجة حبيبة تبتسم لها. فاظهري، واخلعي عنكِ كل خوف، ولا داعي له، لأنني لستُ إلا إنسانًا ليّنًا هيّنًا، يضحّي بكل نفس ونفيس لسقي العلاقة التي تقوم عليها عجلة الحياة، ويتأسّس عليها نظام إلهي.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *